من أرض الرافدين إلى مصر الكنانة .. رحلة إلى أعماق التاريخ !!

بقلم : مهدي قاسم الدراجي

عندما يفكر الإنسان ان يستضل الصمت فإنه يلوذ مع روحه للبحث عن صوتها الداخلي الذي ينبعث من أعماقها هارباً من صخب الحياة إلى هدوء الصمت، ذلك الصمت هو ضجيج داخلي يقبع في بواطن كل انسان، والذهاب إلى رفوف الكتب وشم رائحة الورق الذي يغطيه غبار الزمن هو ملذةٌ أخرى لمن ينصت إلى حفيف ورق تلك الكتب الهادئة، ذلك الصوت هو أجمل موسيقى تسر مسامع من يقلب صفحات التاريخ، واروع باقة ورد كأنها فسيفساء رائع تجمع مختلف أنواع الازهار، وبرائحة تفوح منها نسائم عطر يحرك ذكريات تنقب في بواطنها لتستخرج منها معادن التاريخ . السفر إلى مصر واسابر غور تاريخها وحضارتها هي متعة لمن يطالع الكتب، فتوجهي إلى مصر لغرض اكمال دراستي العليا في مجال الإعلام حيث مدينة (المنصورة) احدى مدن محافظة (الدقهلية) الواقعة شمال القاهرة، التي تعود تسميتها إلى القرن الثالث عشر ميلادياً بعام 1250ميلادي، حينما تمكن المصريون، بقيادة (توران شاه بن نجم الدين أيوب) هزيمة الملك الفرنسي (لويس التاسع) بمعركة (المنصورة) وأسره وايداعه في دار (ابن لقمان) الذي اصبح أحد معالم المدينة التاريخي، فالسفر إلى مصر كان فرصة للغوص والتنقيب والإطلاع وقراءة أعماق تاريخ ذلك البلد، فمصر ليست أرض فقط وانما تاريخ يمتد إلى أزمنة وعصور، زاخرة بماضيها العَراق، تشهد لها اثارها القديمة، ومن يقصد مصر فهو قاصد ارضاً لها ماض متجذر. قد يعتقد المُسافر العراقي وهو يتجول في مضارب ام الدنيا بأنه في غربة بلده، وهذا الشيء حتمي عندما يقرر الفرد للسفر خارج احضان وطنه أي كانت جنسيته، ما ان حطت طائرة الخطوط الجوية العراقية التي اقلتني من العراق إلى مصر، كانت أكثر مخاوفي التي تراودني هي _ أنها الغربة _ ولكن منذ الخطوة الاولى التي حطت رحالي أرض مصر وأول شهقة هواء استقرت في عروقي ايقنت تماماً أنني في وطني الثاني، ما ان يسمع الفرد المصري الذي اتعامل معه بأنني عراقي كان يكون سائق، او موظف بنك، او بقال، او دكتور أو أستاذ، او طالب … الخ، إلا ويبادر بطيب الكلام وينهال علي بكلماته الطيبة التي أرى فيه طبيعة الشخص العراقي عندما يأتيه غريب من بلد آخر، أي بمعنى كِلا الشخصين عراقياً كان او مصرياً يتصف بطيب اللقاء، بالعراقي : (اهل ملگه) ذلك التعامل بين أفراد البلدين هو امر طبيعي والسبب ان كِلاهما يتمتعان بعمق تاريخي يمتد إلى الآف السنين، العراق وحضاراته : (سومر، اكد، بابل، اشور) والشعبان ينحدران من ادم (عليه السلام) عن طريق نوح (عليه السلام) بيد ان العراقيون ينحدرون من (سام ابن نوح) ، أما المصريين ينحدرون من (حام ابن نوح)، والعلاقات بين البلدين مُتجذرة قِدم السنين، منذ هجرة النبي ابراهيم (عليه السلام) المولود بارض الناصرية جنوب العراق إحدى محافظات العراق الثمانية عشر، الذي غادر إلى مصر وتزوج من السيدة هاجر (عليها السلام) المولودة بقرية (الفرما) كما وثقها عالم الانساب والاخبار (ابن هشام البصري) المولود في العراق بمحافظة البصرة التي تقع جنوب العراق، الذي وافته المنية بمصر عام (833 ميلادي) حيث جاء في كتابه : (السيرة النبوية) ان السيدة هاجر زوجة النبي ابراهيم (عليه السلام) ولدت في قرية (الفرما) المدينة المصرية الواقعة في أقصى الدلتا على مقربة من مدينة (تنيس) التاريخية في محافظة (بور سعيد)، وهذه إضافة وبرهان آخر على وشائج الترابط الذي يمتد إلى الآف السنين .
مَثَلَ ذلك الترابط تأثراً بالبيئة المصرية، والذي بدى واضحاً من خلال كل من يسافر إلى أرض الكنانة، والعراقي الذي يتجول في مصر ويشاهد معالمها التاريخية، يجسدها بكتاباته اما ان يكون شاعراً ليكتب عن مصر، أو اديب، او مفكر او صحفي .. الخ، كل حسب مجاله. كُثر هم الشعراء العراقيون الذين سافروا إلى مصر حيث كانت محبتهم واضحة لذلك البلد من خلال تناول مصر بقصائد، مثل الشاعر العراقي عبد المحسن الكاظمي الملقب : (بشاعر البداية والارتجال) ابن مدينة الكاظمية المولود في بغداد عام 1865 والذي قصد القاهرة عام 1911 ميلادي وعاش معظم حياته في مصر إلى أن توفي فيها عام 1935 في منطقة مصر الجديدة، بضواحي القاهرة حيث وارى الثرى في مقبرة الشافعي، والذي كتب قصيدة عنونها (رحلة مصر) كان ضمن ابياتها يقول : (وفي مصر اراك وانت لاه _ وقلبك في العراق جوى يذوب)، كما كتب عن مصر مهدي الجواهري الملقب (شاعر العرب الأكبر) ابن محافظة النجف الواقعة جنوب العراق المولود عام 1899 المتوفى بدمشق 1997 المدفون في مقبرة (الغرباء) السورية، الذي قال عن مصر : ” يا مصرُ تستبق الدهور وتعثرُ، والنيل يزخر والمسلة تزهرُ وبنوكِ والتاريخ في قصبيهما يتسابقان فيصهرون ويصهرُ) هذه القصيدة ألقاها الجواهري خلال مؤتمر ثقافي نظمته جامعة الدول العربية في القاهرة والتي كانت أول زيارة للشاعر العراقي مهدي الجواهري في عام 1951، وقصيدة أخرى قال فيها : “يامصر أحرفك الثلاثة كُن لي لولا الغلو الوجدَ والإغماءَ عشرين عاماً لم أزرك، وساعة منهن كانت منية ورجاءَ”، لم يكن الجواهري الشاعر العراقي الذي كتب عن مصر، هنالك شعراء عراقيون زاروا مصر حيث جسدت ذائقتهم الشعرية ام الدنيا مثل الشاعر (أمجد محمد الموصلي) المولود في العراق عام (1947م) الذي توفي بمصر سنة (2021 م) ابن  مدينة (ام الربيعين) محافظة الموصل الواقعة شمال العراق الشاعر العراقي الذي كتب عن مصر (40) قصيدة، كما تناولت مصر الشاعرة العراقية ابنت بغداد عاتكة الخزرجي بقصيدتها : (مصر ساحرة التاريخ) واخرون، والشعراء الذين تناولوا ام الدنيا يبدوا أنهم تأثروا فيها وحركت عواطفهم، وكما نعلم ان الشاعر لايكتب الا ان يتأثر ويترجم عاطفته بكلمات شعرية.
هذه الوشائج مثلت ترابط بين شعوب البلدين، مازال اثرها قائم إلى اليوم يبدوا مصر ساحرة التاريخ وملهمة لمن يبحث في بطون الكتب ويدور رحى التاريخ لمختلف الأزمة والعصور القديمة، ثم الحديثة، فالمعاصرة، التي كانت لمن يدور عجلة الازمنة ويتجول فيها يرى محطات ومحطات متعددة الميادين، العلمية والثقافية والمعرفية والتاريخية.